كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول سبحانه وتعالى: {وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ}.
فقد جمعت الآية بين العبد الرقيق، واليتيم الفقير، والمسكين المترب.
وفقير المسلمين- كما قلنا- لا يكون أبدا على هذا المستوي الإنسانى من الاستكانة، والذلة، والضعف.. بل هو من إيمانه باللّه في عزّة، وقوّة وإن صفرت يداه من الأصفرين! والذّميون- وهم الذين في يد المسلمين وذمتهم- من أهل الكتاب، فيهم- كما في كل جماعة- من هم في حاجة إلى الصّدقة التي تسدّ مفاقرهم، وتدفع غائلة الحاجة عنهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. فإذا جعل الإسلام نصيبا مفروضا في الزكاة لفقراء أهل الكتاب، فذلك من البر الذي دعانا اللّه إليه نحوهم.. ثم هو من جهة أخرى حماية للمجتمع الإسلامى الذي يعيشون فيه، من آثار هذا الداء- داء الحاجة والعوز- الذي إن سرى في جماعة أفسدها، وأشاع الفوضى والقلق والوهن في كيانها.
{وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} وهم الذين يوكل إليهم تحصيل الزكاة من أهل الزكاة..
فهم- والحال كذلك- مشتغلون يجمعها، عاملون في تحصيلها، ومن تمّ وجب أن ينالوا نصيبا منها، يكفل لهم الحياة المناسبة لهم.. حياة تأخذ مكانا وسطا بين الفقراء والأغنياء.. إنهم عاملون، ولابد لكل عامل من أجر في مقابل ما يعمل..
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم الذين دخلوا في الإسلام من زعماء العرب، ولم تخلص نياتهم له، ولم تطب نفوسهم به، إذ نزع الإسلام عنهم ما كان لهم من سلطان في قومهم، وسوّى بينهم وبين عامة الناس.. فهم- والحال كذلك- في حاجة إلى علاج نفسىّ يزيل ما بينهم وبين الدين الجديد من جفوة.. وفيما كان من تدبير الإسلام في تألفهم إليه بالمال الذي يخصّهم به دون الناس- في هذا ما يرضى نوازع السلطان والرياسة عندهم، وذلك من شأنه أن يقيم نظرهم على الدين الجديد، وأن يتيح لهم الفرصة لمراجعة حسابهم معه، فإذا كان ذلك استبانت لهم حقيقة الإسلام، وعرفوا أي دعوة يدعوهم النبي إليها، وأي خير يقدمه إليهم في ثنايا الدعوة، التي تحمل إليهم سعادة الدنيا والآخرة جميعا..
فهذا المال الذي يتألّف به الإسلام تلك الجماعة التي أعماها حبّها للجاه والسلطان عن أن تنظر في الدعوة الإسلامية، وأن تستمع إلى كلمة الحق التي يؤذّن بها الرسول الكريم في الناس- هذا المال ليس رشوة يقدّمها الإسلام لتلك الجماعة المتأبية عليه، المزورّة عنه، حتى تسكت عنه، ولا تقف في سبيله- وإنما الذي قصد إليه الإسلام من هذا، هو أن يروض جماح هذه الجماعة، ويهدئ من ثائرتها، ويطفئ من نار حنقها، وضغنها على الإسلام، حتى تستطيع أن تنظر إليه، وتعرض دعوته على العقل، بعيدا عن دخان الحقد، وضبابه.. وبهذا يكون حكم هذه الجماعة على الدين الذي يدعون إليه، حكما صحيحا، قائما على النظر، والتعقل، والتدبر..
والإسلام لا يريد من الذين يدعوهم إليه أكثر من هذا.. إنهم يريدهم على أن ينظروا إليه، ويتعقلوه، ويتدبروا آياته..
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} (137: البقرة).. ذلك أنه ليس من الخير للإنسان في نفسه أن يدين بدين لا يعرضه على عقله، وينظر فيه بنفسه، ويجد فيه داعيا مسمعا يدعوه إليه، وعاطفة قوية تعطفه عليه.. فإنّ دينا يدخل على الإنسان من غير هذا الطريق- طريق النظر والاقتناع-، لا يكون له سلطان مؤثّر في سلوك الإنسان، وفى انتفاعه بما يحمل هذا الدين من عقيدة أو شريعة..
هذا، ويرى كثير من الفقهاء أن نظرة الإسلام إلى هذا الصنف من ضعاف الإيمان الذين تألفهم الإسلام بالعطاء- إنما كان ذلك في أول الإسلام، حيث حاجة المسلمين إلى من يكثّر جمعهم، ويسند ظهرهم من الرجال.. ولكن لمّا قويت شوكة الإسلام، وكثرت أعداد المسلمين لم يكن ثمة داع يدعو إلى عملية التأليف هذه، فقد تبيّن الرشد من الغى.. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وإن اللّه لغنىّ عن العالمين..
وعلى هذا، فقد أسقط القائلون بهذا الرأى فريضة المؤلّفة قلوبهم، من الزكاة، بعد أن قوى الإسلام، كما أسقطوا فريضة من في الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون، بعد أن انتهى الرقّ.
والذي نراه، أن تأليف القلوب، وشدها إلى الإسلام، والعمل على تعاطفها معه، أمر لازم للدعوة الإسلامية في حال ضعف المسلمين وقوتهم على السواء.
فتأليف القلوب على الإسلام، وقتل ضغنها عليه، وشنآنها له- هو تدبير حكيم، وسياسة رشيدة، لا تستغنى عنها دعوة جاءت لهداية الناس، وخيرهم، وإسعادهم..
فهذا التدبير الحكيم من شأنه «أولا» أن يشفى هؤلاء المرضى- مرضى القلوب- من دائهم الذي عزلهم عن الإسلام، وحجزهم عن الانتفاع به، والاهتداء بهديه..
وهو «ثانيا» إذ يجلب للمسلمين قوّة جديدة بإضافة هؤلاء المؤلفة قلوبهم إليه، يدفع عن الإسلام والمسلمين شرّا كان يتربص به، وعداوة كانت تتحين الفرص للنيل منهم.
وإذن، فتأليف القلوب على الإسلام، وسلّ السخائم والأضغان عليه منها، أمر ينبغى أن يكون من سياسة الإسلام دائما، ومن عمل المسلمين، في كل حال ممكنة لهم، سواء أكان ذلك بالمال أم بغيره مما يتألف الناس، ويسلك بهم مسالك الخير، ويقيمهم على طريق الهدى.. وإن دعوة الإسلام في صميمها لتقوم على هذا الأساس المتين.. وقوله تعالى لنبيه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هو المفتاح الذي وضعته السماء في يد النبي ليفتح به مغالق القلوب، وليتألفها به، ويستولى على مواطن الاطمئنان منها.
وبهذا المفتاح نفسه يستطيع دعاة المسلمين أن ينفذوا بدعوة الإسلام إلى الصميم من القلوب، وإنه لا بأس من أن يرفدوا ذلك بما يرون من بر وإحسان لمن يدخلون في الإسلام، ليطعموا من ثمر الأخوة الإسلامية، وليفيئوا منها إلى ظل ظليل.
{وَفِي الرِّقابِ}.
وهم الأرقاء الّذين كاتبهم مالكو رقابهم على قدر من المال، في مقابل تخليصهم من الرّق.
فهؤلاء الأرقاء أعضاء ضعيفة، في جسم المجتمع.. وإنه لكى لا يشيع الضعف في هذا الجسم، ولكى يكون على أحسن ما يمكن من الصحة والسلامة، يجب أن يعمل على تخليصه من دواعى الضعف التي ألمت به، لا باستئصال هذه الأعضاء الضعيفة، كما تدعو إلى ذلك بعض المذاهب المادية، ولكن بالطبّ لها من دائها، وتصحيح آدميتها، ونظمها في سلك الآدميين.
وسنعرض بعد شرح هذه الآية لموقف الإسلام من الرق، وسياسته في تخليص الأرقاء.. إن شاء اللّه..
{وَالْغارِمِينَ} وهم المدينون، الذي رهقهم الدين، ولم تكن لهم موارد يؤدون منها الدين.. فهذه الجماعة التي ركبها الدين، هي في معرض الضّياع، أو الانحلال، أو الفساد، إن لم تجديدا رحيمة تمسك بها، وترفع عن كاهلها هذا العبء الثقيل.. الذي هو همّ بالليل ومذلة بالنّهار.
وفى تسمية المدينين بالغارمين، إشارة إلى أن الدّين أيّا كان هو غرم واقع على صاحبه.. لأنه يحمّل المدين عبثا إلى العبء الذي كان يحمله، من ضيق ذات اليد قبل أن يستدين، فهو حين استدان، قد وضع في يده غلّا جديدا، وأضاف على كاهله حملا فوق حمل. وأن هذا اليسر الذي وجده بعد أن استدان لم يكن إلا أمرا عارضا لا يلبث أن يزول، ويعود الحال به إلى ما كان عليه، بل وأسوأ مما كان عليه.
فالدّين غرم.. هكذا يجب أن تكون نظرة المدين إليه، فلا يقدم عليه إلا عند الاضطرار، وإن أقدم عليه فلا يستدين إلا بقدر ما يدفع الحاجة الملحّة التي تبرّر له مدّ يده للاستدانة! ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام إذ وصف الدين بتلك الصفة، وجعله غرما على المدين لا غنما له- فإنه من جهة أخرى حبّب إلى أصحاب الغنى واليسار أن يقرضوا المعسرين من إخوانهم، حتى يحموهم من التعامل بالرّبا.. كما دعا المدينين إلى قضاء دينهم عند أول فرصة تمكنهم من قضائه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «مطل الغنىّ ظلم»..
وقد عرضنا لذلك عند تفسير آية الدّين في سورة البقرة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...} الآية.
وفى نظرة الإسلام إلى {الْغارِمِينَ} وفرض نصيب لهم في الصّدقات، سياسة حكيمة، وتدبير محكم، يريد به الإسلام أن يصحح أوضاع المجتمع الإسلامى، ويقضى على العلل التي تنجم فيه، قبل أن تعظم وتستشرى..
فالمدين الغارم- وهو أشبه بالمفلس- إذا ترك وشأنه، وتلك حاله- لم يستطع الوفاء بقضاء دينه.. وينشأ عن هذا أمور:
منها ضياع مال الدائن، الذي خفّ متطوّعا لإنقاذ المدين، والأخذ بيده في ساعة العسرة..
والدائن إنما عمل خيرا، ومن حقّه أن ينتظر خيرا لما فعل.. فإذا جاءت عاقبة أمره مع المدين على تلك الصورة، ضاقت نفسه بفعل الخير بعد هذا، وكره أن يدخل في تجربة جديدة كتلك التجربة..
والإسلام حريص على إشاعة المعروف بين النّاس، وتبادل الإحسان بين أفرادهم وجماعاتهم.. وموقف كهذا الموقف يقبض بد الناس عن الإحسان، ويزهدهم فيه.
ومنها: أن المدين نفسه، إذا ما وصلت به الحال إلى اليأس من قضاء دينه، صغرت نفسه بين الناس، وخفّ ميزانه فيهم.. ثم لا يلبث حتى ينعكس ذلك على نظرته هو إلى نفسه.. ثم يصبح وإذا هو إنسان ساقط المروءة، متعثر الخطا، مضطرب الحياة، ضائع الوجود.
وإذ فرض الإسلام نصيبا من الزكاة، أو بمعنى آخر من بيت المال، ورصده لقضاء دين المدينين المفلسين، فإنّه حمى بذلك الدائن والمدين جميعا.. وأبقى على مشاعر البرّ والإحسان بين النّاس، وقطع دواعى الشحناء والعداوة بينهم.
هذا، وقد رأى بعض الفقهاء أن يقيّد الدّين هنا بحيث لا يكون قد استدين للإنفاق منه في حرام، أو في سرف وتبذير..
ولا نرى حكمة لهذا القيد الذي يرد على الآية في إطلاقها، فيضيق دائرة نفعها، ويحجز خيرها المطلق، ورحمتها الواسعة عن أن تنال كل غارم مشرف على الهلاك والضياع..
إن الحكم القرآنى- هنا- يواجه حالا واقعة، ويداوى علّة قائمة، ويستنفذ غريقا مشرفا على الغرق..
وإذ كان الأمر على تلك الصفة، فإنه ليس من الحكمة، ولا من المنطق أن يقلّب الإسلام صفحات هذا الإنسان، ويستعرض تاريخه.. ثم ليحكم أهو أهل لأن يمدّ إليه يده فينقذه، أم يدعه حيث هو ليلقى مصيره المحتوم..
وكلا.. فإن المطلوب، أولا، هو إنقاذ هذا الإنسان، دون نظر إلى أي اعتبار آخر..
فإذا أنقذ، كان من الممكن أن ينصح له، وكان من المرجوّ له أيضا أن ينتصح، وأن يتقبل هذا الإحسان الذي يجيء إليه في صورة هداية وتبصرة له، بعد أن تلقّى هذا الإحسان الذي أمسك عليه حياته، وأنقذه من وطأة الدين الذي أنقض ظهره! وأكثر من هذا، فإن الإسلام، تكفّل- من بيت المال- بقضاء دين المدينين، ممن يتوفّون، وليس في تركتهم ما يقضى دينهم..
يقول الرسول الكريم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. من مات وعليه دين فأنا وليّه.. ومن مات وله مال فماله لورثته!» هذا شيء رائع معجز.. لا يمكن أن يقع في حساب تشريع وضعىّ، مهما بلغ من المثاليّة والإحكام.. وإنما هو ممّا تجيء به السّماء من رحماتها وبركاتها.
وإنه بحسب الإسلام أن يقدّم للإنسانية هذه اللفتة الرائعة من لفتاته في بناء المجتمع، وحياطة بنيانه من دواعى التصدّع والتشقق.. فتلك نظرة من نظراته النافذة إلى الصميم من حياة المجتمع، لا تستطيع الشرائع الوضعية في أعمق نظراتها أن تحوم حولها.
{وفى سبيل اللّه} المراد بسبيل اللّه هنا، ما ينفق من مال الصدقات في تجهيز المجاهدين في سبيل اللّه، وفى إمدادهم بالعتاد والسلاح والمؤن وغيرها، مما يعين المجاهدين على الجهاد، لتأمين المجتمع، وحمايته من عدوان المعتدين..
{وابن السبيل}.
وهو المسافر، المنقطع عن أهله.. ولا زاد معه..
والمسافر الذي على تلك الصفة، هو إنسان في معرض الضياع والهلاك، إن لم يجد اليد الرحيمة التي تمتد إليه بالبر والإحسان، فتدفع عنه عادية الجوع التي تهجم عليه، وتريد اغتياله..
وفى جعل بيت المال هو الذي يقوم بهذا الأمر، ويتولّى رعاية أبناء السبيل- في هذا ضمان موثّق لحماية هذه الطائفة، إذ كان بيت المال بموارده الكثيرة، أقدر على كفالة هذه الجماعة، وتوفير أسباب الحماية لها.. ثم هو- من جهة أخرى- صيانة لكرامة الإنسان، من أن يمدّ يده إلى غيره من الناس، أو أن يستشعر أنه عالة على أحد.. الأمر الذي عافاه اللّه منه، إذ جعل إلى «بيت المال» كفالة هذا الإنسان، والبرّ به، والإحسان إليه..